الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهدا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا..
تمهيد
من أقبل على القرآن العظيم واستشعر أنه خطاب من الله تعالى موجه إليه ، ويحمل في طياته مفاتيح سعادته في الدنيا والآخرة ، وأنه إن تدبر القرآن واتبعه سيتغير حاله إلى أحسن الأحوال الإيمانية لا محالة ، فمثل هذا الشخص لا يحتاج إلى من يدله على وسائل تعينه على الانتفاع بالقرآن، لأنه قد أصبح مهيأ للمضي نحو الصراط المستقيم. غير أنه من الصعب علينا – في البداية – أن نكون كذلك بسب ما ورثناه من أنماط التعامل الخاطئ مع القرآن، مما جعل برزخا بيننا وبين الانتفاع بالقرآن..
ما هو تدبر القرآن
هو التفكر والتأمل لآيات القرآن من أجل فهمها وإدراك المعاني التي تدل عليها..
غاية التدبر
هي تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى وذلك بالتعرف عليه وعلى عظيم سلطانه وفضله ، ومن ثَم امتثال أمره ونهيه.. قال تعالى (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد:19] .. فالعلم مقدم على العمل..
فتدبر هذا القرآن العظيم والتأمل في آياته هو الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد.. فذاك الذي يملئ القلوب بالإيمان.. وبه يتبين للعباد الطريق الموصلة إلى الله وإلى جنته.. الطريق الموصلة إلى العذاب وبأي شيئ تحذر.. ولعرَّفهم بربهم وأسمائه وصفاته وإحسانه ، ولشوَّقهم إلى الثواب الجزيل ، ولرهَّبهم من العقاب الوبيل..
حكم تدبر القرآن
أوجب الله تعالى التدبر والتفكر وإمعان النظر ، لفهم معاني آيات الكتاب العزيز، قال تعالى (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29] ، وعاب على المنافقين إعراضهم عن تدبر القرآن والتفكر فيه وفي معانيه ، فقال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24]
قال الحسن البصري رحمه الله (ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يُعلم فيما أنزلت وما أراد بها)
وقال الزركشي رحمه الله (فالقرآن كله لم يُنزله تعالى إلا لِيُفهِمَه ويُعلم ويُفهم ، ولذلك خاطب به أولي الألباب الذين يعقلون والذين يفهمون ، والذين يتفكرون)
قال السيوطي رحمه الله (العادة تمنع أن يقرأ قوم كتاب في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحونه ، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم ؟)
التدبر أصل صلاح القلب
قال ابن القيم رحمه الله (فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر ولا تفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن... فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب)
وقال أيضا (فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر ، لاشتغلوا بها عن كل ما سواها)
ذم تارك التدبر
قال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24]
قال القرطبي رحمه الله (عاب المنافقين بالإعراض عن التدبر في القرآن والتفكر فيه وفي معانيه)
وقال الشنقيطي رحمه الله (ومعلوم أن كل من لم يشتغل بتدبر آيات هذا القرآن العظيم – أي تصفحها وتفهمها وإدراك معانيها والعمل بها – فإنه معرض عنها غير متدبر لها ، فيستحق التوبيخ والإنكار ، إن كان الله أعطاه فهما يقدر به على التدبر... فإعراض كثير من الأقطار عن النظر في كتاب الله وتفهمه والعمل به وبالسنة الثابتة المبينة له من أعظم المناكر وأشنعها)
لا تجعل همك التلاوة دون فهم وتدبر
قال تعالى (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [البقرة:78]
قال السعدي رحمه الله (أميون: أي عوام ليسوا من أهل العلم ، لا يعلمون الكتاب إلا أماني: أي ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة)
قال شيخ الإسلام رحمه الله (وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه)
تصحيح القصد والنية
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى) [رواه البخاري]
قال الحسن البصري رحمه الله (يا ابن آدم ، كيف يَرِقُ قلبك وإنما همتك آخر السورة)
وقال ابن تيمية رحمه الله (من تدبر القرآن طالبا الهدى منه تبين له طريق الحق)
وقال القرطبي رحمه الله (فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بنية صادقة على ما يحب الله أفهمه الله كما يحب ، وجعل في قلبه نورا)
وقال الآجريّ رحمه الله واصفا حال من أراد التدبر (وكان همه عند تلاوة السورة إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلوه ؟ ولم يكن مراده: متى أختم السورة ؟ .. وإنما مراده: متى أعقل من الله الخطاب ؟ متى أزدجر ؟ متى أعتبر ؟ لأن قراءة القرآن عبادة والعبادة لا تكون بغفلة)
حال المؤمن وهو يقرأ القرآن
قال الآجريّ رحمه الله (فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن ، فكان كالمرآة يرى بها ما حَسُن من فعله وما قبح فيه ، فما حذَّره مولاه حَذَره ، وما خوَّفه به من عقابه خافه ، وما رغَّب فيه مولاه رغب فيه ورجاه.. فمن كانت هذه صفته أو ما قارب هذه الصفة فقد تلاه حق تلاوته ، ورعاه حق رعايته)
بين التدبر والتفسير
هناك فرق بين التدبر وبين تفسير مراد الله واستنباط الأحكام الشرعية – التي هي مهمة العلماء الراسخين – وهناك درجات ومنازل من الفهم والاعتبار والتذكر والادكار ومحاسبة النفس لا يعذر أحد في تركها..
قال ابن عباس رضي الله عنهما (التفسير على أربعة أوجهٍ: وجهٌ تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله)
بين المقدار والصفة
المسرع في قراءته قد اقتصر على مقصد واحد من مقاصد القراءة وهو ثوابها ، ومن رتل وتأمل فقد حقق المقاصد كلها وكمل انتفاعه بالقرآن ، واتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم..
من الأمور المعينة على تدبر القرآن
1- التوكل على الله والاستعانة به
قال صلى الله عليه وسلم (ما أصاب عبدا همٌ ولا حزن فقال اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ، ماض فيّ حكمك ، عدل فيّ قضائك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني وذهاب همي وغمي ، إلا أذهب الله عنه همه وغمه وأبدله مكانه فرحا) [رواه أحمد وصححه الألباني]
فالربيع هو المطر الذي يحيي به الأرض ، فشبه القرآن به لحياة القلوب به..
فكرر هذا الدعاء النبوي المبارك كل يوم ثلاثا ، أو خمسا ، أو سبعا ، أو زد على ذلك ، وتحر مواطن الإجابة ، واجتهد أن يكون السؤال بصدق ، وبتضرع ، وإلحاح ، وشفقة ، وأيقن بأن الله سيعطيك خيرا مما ترجو ، ولا تكن كالذين لا يعرفون الإلحاح في المسألة إلا في المطالب الدنيوية المادية ، أما الأمور الدينية فتجد سؤاله لها باردا باهتا ، هذا إن دعا وسأل...
2- حب القرآن
قال ابن مسعود رضي الله عنه (من أحب أن يعلم أنه يحب الله ورسوله فلينظر ، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله)
وقال أبو عبيد رحمه الله (لا يَسأل عبد عن نفسه إلا بالقرآن فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله)
من المعلوم أن القلب إذا أحب شيئا تعلق به ، واشتاق إليه ، وشغف به ، وانقطع عما سواه ، والقلب إذا أحب القرآن تلذذ بقراءته ، واجتمع على فهمه ووعيه فيحصل بذلك التدبر المكين ، والفهم العميق ، وبالعكس إذا لم يوجد الحب فإن إقبال القلب على القرآن يكون صعبا ، وانقياده إليه يكون شاقا لا يحصل إلا بمجاهدة ومغالبة ، وعليه فتحصيل حب القرآن من أنفع الأسباب لحصول التدبر..
فالطالب الذي لديه حماس ورغبة وحب لدراسته يستوعب ما يقال له بسرعة فائقة وبقوة ، وينهي متطلباته وواجباته في وقت وجيز ، بينما الآخر لا يكاد يعي ما يقال له إلا بتكرار وإعادة ، وتجده يذهب معظم وقته ولم ينجز شيئا من واجباته..
واقع أكثر الناس
كثير من الناس إذا سُئل هل تحب القرآن يجيب نعم أحبه وكيف لا ؟ ولكن إذا نظرت إلى حاله تجده لا يجلس معه دقائق معدودة ، هذا إن جلس ، بينما تراه يجلس الساعات الطوال مع ما تهواه نفسه وتحبه من متع الدنيا كالألعاب والمباريات والأفلام وغير ذلك... ولعل سبب من وراء ذلك هو الجهل بعظمة القرآن..
ترى هل أنت محب للقرآن ؟ انظر إلى بعض العلامات التي تدل على مدى حبك للقرآن وانظر إلى كم منها في نفسك...
علامات حب القرآن
· الفرح بلقائه وتقديمه على كل شيء
· الجلوس معه أوقاتا طويلة دون ملل
· الشوق إليه متى بَعُد العهد عنه وحال دون ذلك بعض الموانع وتمني لقائه والتطلع إليه وإزالة العقبات التي تحول دونه
· الرجوع إليه فيما يشكل من أمور الحياة
· طاعته أمرا ونهيا
3- التريث في القراءة
أمر الله تعالى بترتيل القرآن – الباعث على تدبره وفهمه – في قوله ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل:4]
فالترتيل يعني الترسل والتمهل ، وهو يشمل مراعاة المقاطع والمبادئ وتمام المعنى ، بحيث يكون القارئ متفكرا فيما يقرأ..
قال ابن كثير رحمه الله (أي اقرأه علي تمهل فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره)
وقال أيضا (المطلوب شرعا ، إنما هو التحسين بالصوت ، الباعث على تدبر القرآن وتفهمه ، والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة)
وقال القرطبي رحمه الله (والإسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني.. فظهر أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب وكمال المعرفة)
وقال ابن مفلح رحمه الله (أقل الترتيل ترك العجلة في القرآن.. وأكمله أن يرتل القراءة ويتوقف فيها)
صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم
قالت عائشة رضي الله عنها (كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها) [رواه مسلم]
وقالت أم سلمة رضي الله عنها (كان يقطع قراءته آية آية) [ رواه أحمد وصححه الألباني]
4- قراءة الليل
مما يعين على تدبر القرآن والتأمل في آياته ومواعظه وعبره صلاة الليل والقراءة فيه، وفي ذلك يقول المولى عز وجل (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) [المزمل:6]
قال ابن عاشور رحمه الله (والمعنى أن صلاة الليل أوفق بالمصلي بين اللسان والقلب ، أي بين النطق بالألفاظ وتفهم معانيها ، للهدوء الذي يحصل في الليل وانقطاع الشواغل.. وأعون على مزيد من التدبر)
وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما (إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها بالنهار)
5- الإنصات عند سماعه
أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالاستماع والإنصات عند قراءة القرآن، كي ينتفعوا به ويتدبروا ما فيه من الحكم والمصالح، قال تعالى (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف:203]
والمعنى كما قال الطبري رحمه الله (أصغوا سمعكم لتتفهموا آياته وتعتبروا بمواعظه ، وأنصتوا إليه لتعقلوه وتتدبروه ، ولا تلغوا فيه فلا تعقلوه.. ليرحمكم ربكم باتعاظكم بمواعظه واعتباركم بعبره)
فالملازم للاستماع والإنصات عند تلاوة القرآن سينال خيرا كثيرا وعلما غزيرا وإيمانا مستمرا متجددا وهدى متزايدا وبصيرة في دينه..
وإن العكوف على القرآن في وعي وتدبر ، لا مجرد تلاوة وترنم ، ليُنشئ في القلب والعقل من الرؤية الواضحة البعيدة المدى ، ومن المعرفة المطمئنة المستيقنة ، ومن الحرارة والحيوية والانطلاق ، ومن الإيجابية والعزم والتصميم ، ما لا تدانيه رياضة أخرى أو معرفة أو تجريب..
6- حسن الابتداء والوقوف
مما يعين على تدبر القرآن والتفكر في معانيه مراعاة حسن الابتداء والوقف أثناء التلاوة ، وهناك بعض الآيات لها تعلق بما قبلها أو بما بعدها ، وكثير من القراء لا يُراعون حسن الابتداء أو الوقف ، ولا يتفكرون في ارتباط ما يتلونه بعضه ببعض ، ولا يتأملون معاني الآيات ، بل جل همهم هو التقيد بالأعشار والأحزاب والأجزاء ، مما يفوت فهم كثير من الآيات على وجهها الصحيح..
قال النووي رحمه الله (يستحب للقارئ إذا ابتدأ من وسط السورة أن يبتدئ من أول الكلام المرتبط بعضه ببعض ، وكذلك إذا وقف يقف على المرتبط وعند انتهاء الكلام ، ولا يتقيد في الابتداء ولا في الوقف بالأجزاء والأحزاب والأعشار ، فإن كثيرا منها في وسط الكلام المرتبط ولا يغتر الإنسان بكثرة الفاعلين لهذا الذي نهينا عنه ممن لا يراعي الآداب)
7- فهم المعاني
ذم الله تعالى من أعرض عن فهم كتابه فقال سبحانه (فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) [النساء:78]
فالجهل بمعاني القرآن يصرف عن تدبره وتلذذ القلب بقراءته..
قال الطبري رحمه الله (إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله ، كيف يتلذذ بقراءته ؟)
وقال القرطبي رحمه الله متعجبا من حال من قصد تدبر القرآن والعمل به مع جهله بمعناه (وينبغي له أن يتعلم أحكام القرآن ، فيفهم عن الله مراده ، وما فرض عليه ، فينتفع بما يقرأ ويعمل بما يتلو ، فكيف يعمل بما لا يفهم معناه ؟ وما أقبح أن يُسْأل عن فقه ما يتلوه ولا يدريه !)
والحاصل فقراءة معاني الآيات أمر يختلف تماما عن قراءة الألفاظ.. وتعلم معاني القرآن أولى من تعلم حروفه..
قال ابن تيمية رحمه الله (دخل في معنى قوله (خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه) تعليم حروفه ومعانيه جميعا ، بل تعلم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه ، وذلك هو الذي يزيد الإيمان.. كما قال جُندب بن عبد الله وعبد الله ابن عمر وغيرهم رضي الله عنهم: تعلمنا الإيمان ، ثم تعلمنا القرآن ، فازدننا به إيمانا)..
الفرق بين معرفة الألفاظ والمعاني كالفرق بين الليل والنهار
قال إياس بن معاوية رحمه الله (مثل الذين يقرؤون القرآن ولا يعرفون التفسير: كمثل قوم جاءهم كتاب من مَلِكِهم ليلا وليس عندهم مصباح ، فتداخلتهم روعةٌ ، لا يدرون ما في الكتاب ، ومثل الذي يعرف التفسير: كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرؤوا ما في الكتاب)..
وقد أحسن القائل إذ قال:
واتل بفهم كتاب الله ، فيه أتت كل العلوم ، تدبره تر العجبا
8- الوقوف عند المعاني
والمقصود بذلك أن يقف القارئ عند المعنى فلا يتجاوزه إلى غيره ، متأملا له ومتفكرا فيه..
ومن أبلغ الشواهد وأوضحها ما رواه حذيفة رضي الله عنه حيث قال (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فافتتح البقرة... ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها. يقرآ مترسلا ، وإذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ ، ثم ركع..) [رواه مسلم]
قال السيوطي رحمه الله (وصفة الوقوف عند المعاني أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به ، فيعرف معنى كل آية ويتأمل الأوامر والنواهي ، ويعتقد قبول ذلك ، فإن كان مما قصر عنه فيما مضى تاب واعتذر واستغفر ، وإذا مر بآية رحمة استبشر وسأل ، أو عذاب أشفق وتعوذ ، أو تنزيه نزه وعظم ، أو دعاء تضرع وطلب..)
9- ترديد الآية المؤثرة في القلب
مما يعين على تدبر القرآن والتفكر في معانيه ترديد الآية المؤثرة في القلب، وهذا الترديد من أبرز صور الوقوف على المعاني، وإن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة..
عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال (قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية حتى أصبح يرددها) [أخرجه ابن ماجه وحسنه الألباني]
وقال ابن قدامة رحمه الله (وليعلم أن ما يقرأه ليس كلام بشر ، وأن يستحضر عظمة المتكلم سبحانه ويتدبر كلامه ، فإن التدبر هو المقصود من القراءة ، وإن لم يحصل التدبر إلا بترديد الآية فليرددها)
وقال بشر بن السري رحمه الله (إنما الآية مثل التمرة ، كلما مضغتها استخرجت حلاوتها)
قال النووي رحمه الله (وقد بات جماعة من السلف يتلو الواحد منهم الآية الواحدة ، ليلة كاملة أو معظمها ، يتدبرها عند القراءة)
وقال ابن القيم رحمه الله (وهذه كانت عادة السلف ، يردد أحدهم الآية إلى الصباح)
مما يعين على التدبر إجمالا
1- تعلم التلاوة الصحيحة
2- تعاهد القرآن وتدارسه
3- ربط أول الآية بآخرها
4- النظرة التفصيلية في سياق الآية (تركيبها – معناها – نزولها – غريبها – دلالاتها)
5- معايشة معاني الآيات
6- تصور حال الدعوة عند نزول الآيات
7- عدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة فالمعاني تتجدد
8- تدوين المعاني التي تستشعرها من الآيات
9- تدوين ما أشكل من الآيات والرجوع إلى أهل العلم فيها
10-حفظ القرآن العظيم
11-انظر إلى ما تدل عليه علامات الوقف والابتداء في آخر المصحف
جنة الدنيا وجنة الآخرة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة)
قال ابن القيم رحمه الله (وقد جعل الله نعيم القلب وسعادته ومحبته والطمأنينة بذكره ، والفرح والابتهاج بقربه ، والشوق إلى لقائه هي جنته العاجلة ، كما أنه لا نعيم له في الآخرة ولا فوز إلا بجواره في دار النعيم في الجنة الآجلة ، فله جنتان لا يدخل الثانية منهما إن لم يدخل الأولى)
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله (لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف)
وقال آخر (إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا النعيم إنهم لفي عيش طيب)
أخي في الله لا ترحل من هذه الدنيا ولم تذق ألذ وأطيب ما فيها ، إنه القرآن كلام الله ، الذي لا يشبه التنعم به أي نعيم على الإطلاق..
الخاتمة
إن فهم القرآن وتدبره مواهب من الكريم الوهاب يعطيها لمن صدق في طلبها وسلك الأسباب الموصلة إليها بجد واجتهاد ، أما المتكئ على أريكته ، المشتغل بشهوات الدنيا ويريد فهم القرآن فهيهات هيهات ولو تمنى على الله الأماني..
هذه المادة ليست مجموعة نظريات أو فرضيات توضع كحلول للمشكلة المراد علاجها ، إنما هي خطوات عملية ، تحتاج إلى تدرج وتكرار حتى يصل المتعلم فيها إلى ما وُصف من نتائج وثمار..
قال ثابت البناني (كابدت القرآن عشرين سنة ثم تنعمت به عشرين سنة)
وما قاله ثابت البناني حق ، فقف عند الباب حتى يفتح لك ؛ إن كنت تدرك عظمة ما تطلب ، فإنه متى فتح لك ستدخل إلى عالم لا تستطيع الكلمات أن تصفه ولا العبارات أن تصور حقيقته ، أما إن استعجلت وانصرفت فستحرم نفسك من كنز عظيم وفرصة قد لا تدركها فيما تبقى من عمرك..
أصل هذه المادة
1- رسالة هجر القرآن العظيم لفضيلة الدكتور محمود بن صالح الدوسري حفظه الله
2- رسالة مفاتح تدبر القرآن والنجاح في الحياة لفضيلة الدكتور خالد اللاحم حفظه الله
3- تفسير العلامة السعدي رحمه الله
4- الفوائد وفوائد الذكر كلاهما للإمام ابن القيم رحمه الله